عند سماعنا كلمة “بورصة” تدور في مخيلتنا بعضا من المشاهد السينمائية لأفلام أمريكية يملؤها الصراخ والضجيج في مكان واحد لأشخاص يرتدون ملابس رسمية، يجلسون أمام شاشات الحاسوب، وأعينهم تتحرك مع تغير ألوان مؤشرات الأسهم من أحمر إلى أخضر أو العكس، بين الهبوط والارتفاع، ومع كل حركة ينفذون أوامر معينة بالشراء أو البيع. فما هي هذه البيانات التي يتابعونها بتركيز عال؟
- ما هي البورصة؟
سوق يجمع بين المشترين والبائعين لتسهيل عمليات بيع وشراء أوراق مالية فيما بينهم، مثل أسهم وسندات يتم تداولها والعمل بها وفق نظام وقوانين مالية عالمية تم التوصل لها على مدى عقود من خلال التجارب والخبرات المتراكمة.
قديما كان يتم التداول في أماكن مختلفة مثل المقاهي التي تعد المركز الأول للتداول وحلقات الرهان في بداية القرن التاسع عشر، كانت تتم هذه المداولات بطريقة بسيطة وغير منظمة ومع مرور الوقت أصبحت أكثر تنظيما واتخذت عدداً من القوانين الضابطة لعملها، ولفهم التطور الذي حدث للبورصة منذ بداية العمل بها وحتى اليوم لا بد أن نتحدث عن واحدة من أقدم وأهم البورصات في العالم وهي البورصة الأمريكية، والمراحل التي مرت بها خلال عقدين من الزمن احتلت خلالهما الصدارة بلا منازع.
- ما هي البورصة الأمريكية؟
أنشئت البورصة الأمريكية عام 1908، عندما كان السماسرة آنذاك يجتمعون ويبدأون تداول الأوراق المالية في المقاهي أو في شوارع نيويورك من خلال الأصوات المرتفعة، قبل أن تسمى بورصة نسبة إلى عائلة فان در بورصن (Van der Bürsen) البلجيكية التي كانت تعمل في مجال البنوك، إذ تعتبر البورصة البلجيكية هي أول بورصة أنشئت، ويعد فندق عائلة “بورصن” أول مكان لالتقاء التجار المحليين في القرن الخامس عشر، وكانت تتم فيه المداولات المالية المختلفة، ومع مرور الزمن أصبح رمزاً لسوق رؤوس الأموال، ومن هنا جاءت تسمية البورصة.
أطلق اسم New York Curb Exchange على البورصة الأمريكية في البداية وذلك نسبة إلى أماكن تداولها في مقاهي وشوارع مدينة نيويورك، بقي هذا لنوع من التداول غير رسمي وغير منظم عقب إنشاء وكالة New York Curb Market لتطبيق القواعد واللوائح على الممارسات التجارية المختلفة للتجار، وعرف التجار الذين التقوا في الأصل في شوارع نيويورك باسم سماسرة كوربستوني، كان أغلبهم متخصص في تداول أسهم الشركات الناشئة آنذاك في صناعات مثل السكك الحديدية والنفط والمنسوجات.
في بداية عام 1929 أصبح للبورصة الأمريكية أرضية تداول أقوى ومجموعة من اللوائح التنظيمية الرسمية، استمر العمل بها حتى خمسينيات القرن العشرين، إلى أن بدأت المزيد والمزيد من الشركات الناشئة في تداول أسهمها في بورصة نيويورك، لتتضاعف قيمة الشركات المدرجة في البورصة تقريبًا بين عامي 1950 و 1960، من 12 مليون دولار إلى 23 مليار دولار، تضاعفت عقب ذلك أهمية البورصة وتطورت بشكل مستمر رغم الصعاب التي واجهتها، إلا أنها استطاعت عقب كل انهيار لحق بها أن تعيد ترتيب قوانينها ولوائحها الداخلية لتصبح أقوى وأكثر أمانا للمستثمرين والاقتصاد الدولي والمحلي.
- ما أبرز المصاعب التي ساهمت في تشكيل قوة البورصة الأمريكية؟
على الرغم من كونها واحدة من أكثر البورصات شهرة في العالم، ويبلغ حجم التداول اليومي فيها أكثر من 80 مليون ورقة مالية، إلا أنها مرت بالعديد من المحطات الصعبة التي اجتازتها بمزيد من القوانين لتصبح بهذه القوة من التأثير في الاقتصادات المحلية والدولية، فعلى مدار أكثر من 100 عام عانت البورصة الأمريكية من عدة انتكاسات تنوعت بين سوء الإدارة والفضائح والأزمات، الأمر الذي استدعى إعادة هيكلتها وبناء القواعد واللوائح القانونية لتنظيم تداول الأوراق المالية المختلفة فيها، إلى أن أصبح التداول أسرع وأكثر أمانًا بعد التطور التكنولوجي.
هنا نذكر أبرز المحطات التي مرت بها البورصة الأمريكية والتي ساهمت في إعادة قوتها وتركيز سيطرتها عالميا:
العام | الأزمات التي أدت لتطوير قوانين المنظمة للبورصة |
1929 | قبل انهيار الأسواق عام 1929، ارتفعت أسعار الأسهم إلى مستويات غير مسبوقة. ارتفع مؤشر داو جونز الصناعي (DJIA) ستة أضعاف من 64 في أغسطس 1921 إلى 381 في سبتمبر 1929. ومع نهاية يوم التداول في 24 أكتوبر 1929 والمعروف باسم الخميس الأسود، انهار المؤشر بانخفاض 21 ٪. |
1962 | يسمى ب”انزلاق كينيدي” نسبة إلى الانخفاض المفاجئ الذي ضرب الأسواق في عهد الرئيس الأمريكي آنذاك، حيث انخفض مؤشر داو جونز الصناعي بنسبة 5.7٪، وهو ثاني أكبر انخفاض له في ذلك الوقت. حدث هذا الانخفاض في أعقاب الارتفاع في السوق الذي أغرى العديد من المستثمرين بإحساس زائف بالأمان، حيث ارتفعت الأسهم بنسبة 27٪ في عام 1961. |
1987 | يُعرف يوم 19 أكتوبر 1987 باسم الإثنين الأسود، وخسر داو جونز أكثر من 500 مليار دولار بعد انخفاضه بنسبة 22.6٪، وهو أكبر انخفاض في سوق الأسهم ليوم واحد في التاريخ بعدما كشفت الحكومة الأمريكية عن عجز تجاري أكبر من المتوقع، مما قوض ثقة المستثمرين وأدى إلى تقلبات كبيرة في الأسواق. |
2000 | يسمى ب”فقاعة الانترنت” قبل الانهيار ارتفع مؤشر ناسداك خمسة أضعاف بين عامي 1995 و 2000، وانهار بنسبة 76.81٪ بحلول نهاية عام 2001، وانهارت معظم أسهم الانترنت “الدوت كوم”. واستغرق الأمر حتى 24 أبريل 2015 أي بعد 15 عامًا حتى يستعيد مؤشر ناسداك ذروته التي وصلها قبل الانهيار. |
2008 | في 29 سبتمبر 2008، انخفض سوق الأسهم بمقدار 777.68 نقطة في يوم واحد، والذي كان في ذلك الوقت أكبر انخفاض في التاريخ. كان السبب المباشر لانهيار السوق هو رفض الكونجرس المبدئي لتمرير مشروع قانون إنقاذ البنوك الذي من شأنه أن يعمل على استقرار النظام المالي الأمريكي بعد سلسلة من الصدمات التاريخية. (تم تمرير مشروع القانون أخيرًا في 3 أكتوبر 2008.) |
2020 | يعد انهيار سوق الأسهم بسبب فيروس كورونا لعام 2020 هو أحدث انهيار في الولايات المتحدة، والذي حدث بسبب موجة البيع بعد الإعلان رسمياً عن جائحة كورونا كوباء عالمي في 16 مارس، كان الانخفاض في أسعار الأسهم مفاجئًا وسريعاً. وفي الفترة ما بين 12 فبراير إلى 23 مارس خسر مؤشر داو جونز الصناعي 37٪ من قيمته وتم تعليق تداول بورصة نيويورك عدة مرات. والمثير هو سرعة انتعاش الأسواق بعد ذلك فمع تاريخ 18 أغسطس 2020، وصل مؤشر S&P 500 إلى مستويات قياسية. |
2022 | بحلول 16 يونيو 2022 انخفض مؤشر S&P بنسبة 23.55٪ و مؤشر داو جونز الصناعي بنسبة 18.78٪ وانخفض مؤشر ناسداك المركب بنسبة 33.70٪. ومازالت الأسواق لم تتعافى حتى اللحظة ولا نعرف إن كانت الأسواق ستنخفض أكثر في الشهور القليلة القادمة، تحديداً وأن التضخم ما زال عنيداً ولم ينخفض بشكل يسمح للفيدرالي العودة إلى تيسير السياسة النقدية. |
- ما أهمية البورصة الأمريكية؟
تجمع البورصة الشركات والمستثمرين معًا، وذلك بهدف مساعدة الشركات لزيادة رأس المال الذي يبحثون عنه، عن طريق إصدار أسهم ملكية لبيعها للمستثمرين، وبالتالي تستطيع الشركات استثمار هذه الأموال مرة أخرى في أعمالها، ليتضاعف ربح المستثمرين من استثماراتهم في تلك الشركات.
- ما أهم المؤشرات التي يتم تداولها في البورصة الأميركية؟
تشتمل البورصة الأمريكية ثلاث من أكبر المؤشرات الاقتصادية العالمية التي تمثل أعلى قيمة سوقية في العالم، ويعتبر شارع “وول ستريت” في نيويورك مقرها المركزي، قديما وخلال القرن السابع عشر كانت “وول ستريت” منطقة مخصصة لبيع وشراء العبيد والأوراق المالية، تطور العمل منذ ذلك الوقت لتصبح الأهم في تداول الأعمال التجارية والاقتصادية دولياً، وبقيت محافظة على الصدارة حتى يومنا هذا.
ومن أهم المؤشرات التي تعكس قوة ونشاط البورصة الأمريكية:
- مؤشر “ناسداك”، الذي يعكس نشاط أكبر الشركات التكنولوجية و الاستثمارية، ويعتبر أول مؤشر يتم التداول به من خلال الشاشات الإلكترونية، يضم أسهم لأهم وأكبر الشركات التكنولوجية ومنها: “أمازون، جوجل، ميتا، تيسلا.
- مؤشر “داو جونز” الصناعي، الذي يمثل قوة أكبر ثلاثين شركة صناعية فيها، ويعتبر أقدم مؤشر في العالم ويضم عددا من أكبر الشركات في العالم منها: كوكاكولا، آبل، إنتل، مايكروسوفت، جونسون آند جونسون، نايكي وغيرها الكثير.
- مؤشر “SP500″، الذي يمثل أكبر 500 شركة مالية من بنوك ومؤسسات مالية، أي ما نسبته 80% من إجمالي رسملة السوق الأمريكية، ومن أهم الشركات المدرجة فيه: “Berkshir Hathaway Inc. Class B, Bank of America, JPMorgan Chase & Co.
- لماذا تحظى البورصة الأمريكية بأهمية خاصة؟
تحظى البورصة الأمريكية بأهمية خاصة بسبب قوة الاقتصاد الأمريكي وهيمنة الدولار على العالم، فيما يلي أهم أسباب القوة الاقتصادية للولايات المتحدة:
- أولاً، تعمل أمريكا ضمن نظام رأسمالي يعتمد على اقتصاد السوق المبني على الاستثمار الحر والمنافسة التجارية، ويعزز هذا النظام بنية تحتية متطورة جداً، إضافة للثروات الطبيعية التي تشكل عاملاً قوياً اقتصادها مثل “البترول، والغاز الطبيعي”، وكذلك قوة زراعية هي الأقوى عالمياً، أما الأهم من ذلك فهو تربع أمريكا على عرش التطور التكنولوجي والذكاء الصناعي، ما جعلها تحتل المراكز الأولى عالمياً في مجال صناعة السيارات، والكهرباء، والتطور في مجال الفضاء والطيران والتسليح وغيرها الكثير.
- ثانياً، هيمنة الدولار الأمريكي على التجارة الدولية، حيث يعتبر ذلك واحدا من أهم نقاط قوتها في السيطرة على التجارة الدولية والاحتياطات المصرفية، مع قوة الدولار الذي بات العملة الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم.
- ثالثاً، حرية وسهولة حركة رؤوس الأموال وهو ما جعل كبار المستثمرين يتحركون سريعاً لاقتناص فرص في الولايات المتحدة، إضافةً بالتأكيد للهيمنة والقوة السياسية التي تتمتع بها الولايات المتحدة والتي تجعل الكثير من الدول تسعى وتطمح لأن تكون ضمن الشركاء التجاريين الأساسيين فيها.
ومن هنا جاءت أهمية البورصة الأمريكية
- حيث أنها تتمتع بتأثير كبير على الاقتصاد العالمي باعتبارها المحور التجاري لأكبر سوق مالي في الدولة المسيطرة على الاقتصاد الدولي، وتعد شركة رائدة بلا منازع في جميع أنحاء العالم من حيث متوسط حجم تداول الأسهم اليومية وإجمالي القيمة السوقية لشركاتها المدرجة.
- تعد البورصة مقياساً لاقتصاد الدول سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وهي مصدر لتمويل المشاريع الوطنية والدولية في التنمية الاقتصادية للعديد من الدول، إضافة لكونها الداعم الرئيسي للاقتصاد الأمريكي، حيث أن نمو السوق المالي يعني مستويات أعلى للمعيشة بالإضافة إلى خلق المزيد من فرص العمل لسكان البلاد.
- تحتوي البورصة الأمريكية على أكبر البورصات العالمية والشركات المالية الكبرى، وتوظف آلاف الأشخاص سنويًا، وتأثيرها قائم ليس فقط في الاقتصاد الأمريكي، بل أيضًا في الاقتصاد العالمي والدول النامية، حيث أنها تساعد دول العالم الثالث في تمويل المشاريع التي تساهم في التخفيف من حدة الفقر.
لا يوجد تعليقات