حلقة مفرغة.. عن علاقة الفقر بالفساد

حلقة مفرغة.. عن علاقة الفقر بالفساد

يخلق الفقر دائمًا إحساسًا عميقًا بعدم الارتياح داخلنا. فهو مزعج لأنه يسيئ إلى إحساسنا بالإنصاف والعدالة. فعلى الرغم من العيش في عالم اكتسب مستوى كبيرًا من الثراء الذي أنتجه التقدم الرهيب الذي أنجزته البشرية خلال أقل من قرن من الزمن. يعاني عدد كبير من الناس في البلدان الفقيرة والنامية من نقص في أبسط الموارد الأساسية.

حتى في البلدان الأكثر تقدمًا مثل الولايات المتحدة. أو في البلدان التي تفيض بالأموال نتيجة للموارد النفطية مثل السعودية التي يقبع الكثير من مواطنيها تحت براثن الفقر، فوفقًا لتقرير منشور في صحيفة الغارديان البريطانية. فإن ما بين 2 مليون و 4 ملايين من المواطنين السعوديين يعيشون على أقل من نحو 530 دولارًا في الشهر – نحو 17 دولارًا في اليوم – وهو ما يعتبر تحت خط الفقر في المملكة العربية السعودية.

في ملف “دوامة الفقر” سنحاول البحث في الأسباب التي تُبقي الفقراء داخل مجموعة من الحلقات المفرغة. ليبقوا في مكانهم دون أن يتمكنوا من الخروج من هذه الدوائر الطاحنة وهو الأمر الذي يقوض نمو الدول بل ويكاد يعد حجر أساس لكثير من النزاعات والحروب حول العالم. وبدايةً نناقش علاقة الفقر بالفساد وسوء إدارة الحكومات.

الفساد المسؤول الأول

أسباب الفقر في البلدان النامية متنوعة وقد تكون المسببات مختلفة من بلد لآخر. لكن باعتقاد الكثيرين أن السبب الأكثر شيوعًا في معظم البلدان النامية هو الفساد وتأثيره السلبي على نمو الكثير من البلاد ورفاهيتها. الأمر الذي جعل حكومات العالم تكافح ليل نهار للتعامل معه.

يتكاثر الفساد مثل الفطريات داخل البيئات الجاهزة لاحتضانه. فعادة ما يهاجم مجموعة واسعة من المؤسسات وعلى جميع المستويات. بدءًا من الحكومات وصولًا للقطاع الخاص ولا يترك الأنظمة القضائية من براثنه لينهش في مفاصل مؤسسات التعليم والصحة وما إلى ذلك.

وليس من المستغرب أن العديد من البلدان النامية لديها سجلات سيئة في ملف الفساد لا سيما إذا قورنت بأجزاء أخرى من العالم. فإذا نظرنا إلى دراسة استقصائية أجرتها منظمة الشفافية الدولية. فسنلاحظ أن العديد من البلدان النامية مثل الصومال والسودان وسوريا واليمن وغيرها من البلدان العربية الأخرى احتلت المراتب الأخيرة في مؤشر الشفافية الدولية لعام 2019. حيث سجلت في الغالب نحو 15 نقطة من أصل 100 بينما سجلت الدول الغنية ما يقارب 85 نقطة. وذلك مثل سنغافورة والدنمارك ونيوزلندا.

وبالنظر إلى أن الدول التي احتلت مراتب متأخرة في القائمة تعاني من نزاعات وحروب أهلية يمكننا القول إن هناك علاقة سببية بين الفساد وعدم الاستقرار في بلد ما حيث يقود أحدهما إلى الآخر. وكلما قل الفساد كان ذلك أفضل فيما يخص نمو ثروة ورخاء مواطنيها. خاصةً أن الفساد يؤدي إلى تثبيط الاستثمارات الأجنبية بشكل خطير.

وهي أدوات بالغة الأهمية في دعم اقتصاد أي بلد. إذ تسهم في توفير وظائف لا حصر لها للسكان المحليين وتوسع الدخل الضريبي للحكومات الذي يساعدها في تمويل مشاريع البنى التحتية. ولكن إن وجد المستثمرون أن بلدًا معينًا يشوبه الفساد. فإنهم على الأغلب سيترددون في إدارة أعمالهم أو افتتاح مشاريعهم هناك. لأنه يتعين عليهم دفع رشاوى لتسريع أو إتمام المعاملات البيروقراطية للحصول على ترخيص أو إذن قانوني. وهو ما يحفز الكثير من الشركات المحلية والدولية ليتهربوا ضريبيًا.

في هذا السياق، ذكرت دراسة أجرتها مؤسسة “Action Aid” بعنوان “المحاسبة من أجل الفقر”، أن التكلفة السنوية المقدرة لحكومات البلدان النامية بسبب التهرب الضريبي من الشركات متعددة الجنسيات تقدر بما يقارب 160 مليار دولار.

وبالجانب إلى تقويض الاستثمارات والتهرب الضريبي، فإن الفساد يؤدي أيضًا إلى استنزاف مبالغ وثروات ضخمة من موارد الدول النامية والفقيرة. فعلى سبيل المثال وبحسب تقرير نشر على موقع “بي بي سي” فإن الأفغان دفعوا ما يقرب من مليار دولار على شكل رشاوى عام 2009. ونحو ثلث الذين شملهم استطلاع للرأي في نفس الخصوص اضطروا إلى دفع رشوة للحصول على خدمة عامة.

اليوم وبعد ما يزيد على عشر سنوات من تاريخ نشر التقرير ما زال العديد من الأفغان فقراءً للغاية. وهنا يقع اللوم إلى حد كبير على الفساد السائد في الحكومة أو في عدم قدرتها على محاربته.

 

سوء الإدارة

سوء إدارة الحكومة هو الوجه الآخر للفساد، قد يكون أقل قبحًا لكن ليس أقل ضررًا. خاصةً أنه يعيق نجاح البلدان النامية. فما زالت العديد من دول العالم الثالث تعاني من الفقر بسبب الإدارة غير السليمة وقلة الكفاءة في الحكومات. مما يؤدي إلى الفشل في إدارة ومراقبة موارد الدخل القومي. إضافة إلى الفشل في الدبلوماسية الذي يقوض الانفتاح التجاري على العالم. ويجعل تلك الحكومات راضخة للفساد.

وأبرز مثال على ذلك، الدخل القومي الذي يتم توليده من مصادر عديدة مثل: جباية الضرائب، السياحة، الاستيراد والتصدير، إلخ. الذي يتطلب وجود هيئات وأنظمة ذات كفاءة عالية لتحقيق أفضل استخدام للإيرادات المحصلة وزيادتها. لكن لسوء الحظ بالنسبة للبلدان النامية. لا يصب جزء كبير من هذه الأموال في خزائن الدولة، وينتهي الأمر به في جيوب أفراد هنا وهناك من أصحاب النفوذ ومنتفعيهم.

في هذا السياق. وجدت دراسة بعنوان “التدفقات المالية غير المشروعة من العالم النامي: 2002-2011″، أن العالم النامي خسر ما يقدر ب 5.9 تريليون دولار أمريكي. بسبب التدفقات الخارجة غير القانونية التي زادت بشكل مثير للقلق بمعدل متوسط يزيد على 10% سنويًا، وقدرت خسائر البلدان الإفريقية وحدها نحو 854 مليار دولار وذلك من عام 1970 حتى عام 2008.

وبحسب مدير منظمة النزاهة المالية العالمية (GFI)، ريموند بيكر: فإن “حجم الأموال التي تم استنزافها من إفريقيا – مئات المليارات عقدًا بعد عقد – يتجاوز بكثير المساعدة الإنمائية الرسمية التي تذهب إلى البلدان الإفريقية”. مضيفًا “وقف هذا التدفق المدمر لرأس المال الذي تشتد الحاجة إليه ضروري لتحقيق التنمية الاقتصادية وأهداف التخفيف من حدة الفقر في هذه البلدان”.

وبالنظر إلى تلك المعطيات، فإن إدارة الموارد عامل رئيسي في تحسين مستوى المعيشة في البلدان النامية. لأن غيابها يمكن أن يؤدي إلى صراع في مجتمعات البلدان النامية. وقد يكلف حكوماتها خسارات اقتصادية ودبلوماسية ثقيلة مع ما تشكله أمامها من حواجز تعرقل طريقها في تعزيز علاقات قوية مع الدول الأجنبية في المجتمع الدولي.

ببساطة، يمكن للعلاقة الجيدة بين البلدان أن تحفز وتجذب الاستثمارات والمساعدات. فقد أخذ عدد قليل من البلدان في العالم النامي زمام المبادرة في القيام بذلك ولكن ما زال البعض الآخر يحتفظ بسياسات دولية غير ودية وصارمة مع جيرانهم والعالم بأسره.

ستكون كوريا الشمالية مثالاً ممتازًا لإظهار السبب في أن الدبلوماسية الضعيفة تجر البلاد إلى أسفل. حيث يريد الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ إيل إبعاد بلاده اقتصاديًا عن الاستثمارات الأجنبية. ولهذا السبب لا تزال كوريا الشمالية عالقة في مصيدة الفقرة.

الحروب الأهلية

ساهمت الحروب الأهلية إلى حد كبير في إفقار البلدان النامية. مثل اليمن وسوريا والصومال الذي دمرته الصراعات وجعلته عرضة للتخلف أكثر بكثير من أي بلد آخر. فليس من السهل أن تقف دولة ما على قدميها بعد خوض حرب مليئة بالخسائر المادية والبشرية. حيث تواجه حكومة ما بعد الحرب العديد من التحديات وعمليات إعادة البناء باهظة الثمن. بالإضافة إلى ذلك، تطيح الحروب الأهلية بالمستثمرين الأجانب وتوقف أيضًا مشاريع التنمية القائمة والمحتملة.

ما يعني أن الحكومة قد تستغرق سنوات طويلة لإعادة ثقة المستثمرين وتحفيزهم على تأسيس أعمالهم. وذلك ما يفسر سبب تباطؤ نمو القطاع الخاص في البلدان التي عانت من الحرب الأهلية. علمًا بأن القطاع الخاص ليس الوحيد الذي يتضرر، إنما العديد من القطاعات الأخرى مثل السياحة التي يتضاعف حجم خسائرها.

الأسوأ من ذلك كله، أن الدول التي تخوض حروبًا أو تعاني من نزاعات مسلحة طويلة. يتم تمويلها بالاقتراض لشراء الأسلحة والمواد الغذائية وعندما تصبح الديون أكبر. تضطر الحكومة إلى تحويل الأموال المستهدفة لتعزيز قطاعات أساسية في نهضة البلاد. مثل التعليم أو الإمدادات الغذائية أو التنمية الريفية من الميزانية الحكومية من أجل سداد القروض والفوائد المتراكمة عليها. وعادة ما يتزامن الخروج من الحروب مع حكومات من قادة الحرب ومواليهم. لتكون حكومات غير كفء وتدخل البلاد في دائرة الفساد وسوء الإدارة مرة أخرى.

 

هل الفساد المسؤول الوحيد؟

ما حدث في الصين خلال العقدين الماضيين قد يكون دليلًا على أن الفساد ليس المسبب الوحيد للفقر. فعلى الرغم من التقدم الاقتصادي الهائل الذي أحدثته الصين لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم الذي صاحبه انخفاض في نسبة الفقراء في بلد يمثل سدس التعداد السكاني في العالم. فإن ملف الصين فيما يخص الفساد بقي مريعًا، فبحسب تقرير الشفافية الدولية لعام 2019 ما زالت الصين تحظى بترتيب منخفض من الشفافية (درجات عالية من الفساد).

والفرق الحاسم بين أدائها وأداء البلدان النامية الأخرى لم يكن الفساد بل السياسة الاقتصادية. ما يثبت أن السياسات الاقتصادية السيئة تخلق الفقر وترسخه. فهل يكفي تبني باقي دول العالم الفقيرة سياسات مشابهة لينجو العالم من دوامة الفقر؟

بقلم محمد ابوريا

رابط المقال الأصلي

لا يوجد تعليقات

Comments are closed.